بين الموت والحياة، عقلٌ يتقاذفنا..
أشعر في الآونة الأخيرة أنّني متّ قليلاً..
أو ربّما كثيراً.. لا أعرف!
مع كلِّ جثّةٍ نظرت إليها، ومع كلّ حصيلةٍ قدّمتها، بطبيعية.. مات فيّ جزءٌ صغير.. أو ربّما كبير.. لم أعد قادرة على التقييم. فأنا لم أعد أؤمن بالمنطق.. ولا أي منطق! فكيف أقيّم؟
أو ربما يمكنني على الأقل تقييم أن القاتل الفعلي، قاتلي، هو كلّ هذه الألاعيب السياسية! أموت فعلياً كلَما ردّدت استنكاراً وكلّما عبّر أحدهم عن قلقه..
أنا: "حبيبي، خود حبة مهدئ أعصاب، واعفينا من قلقك الما إلو عازة"
هو: "مدام، ما حدا غيرك بدو مهدّئ أعصاب، أنا قلت إن الوضع مقلق، وهذا لا يعني بالضرورة أنني قلقٌ شخصياً"
معه حق..
على الأرجح أن عقلي استنتج وحده أنّ العالم يأبه، لأنني أفضّل أن يأبه العالم، على أن أواجه الواقع.. للعقل بدعُه في رؤية الإنسان لما يجري من حوله، وفي تفاعل الإنسان على المعطيات المقدّمة إليه..
كلّما انتابني الشك أنّني أقع فريسةً لألاعيب العقل، توجّهت إلى المنشورات في عالم التسويق والاعلانات.. فهذا العالم الذي لا نكترث كثيراً لوجوده، على الرغم من أنّه يغرقنا بمنتجاته يومياً، هذا العالم يستثمر الملايين والملايين ليدرس عقل الإنسان.. ليس الواعي منه.. بل اللاواعي.. وما أدراك بما "يخبّصه" اللاوعي فينا..
من آخر الدراسات التي لفتت انتباهي، هي دراسة الكولا.. في أربعة أكواب، وزّع الباحثون مشروباً غازياً، عبارة عن خليط من البيبسي والكوكاكولا وكولا ثالثة تقليد للعلامتين الشهيرتين.. الكوب الأوّل حمل غلاف "بيبسي"، والثاني "كوكا كولا".. والثالث "العلامة التقليد" والرابع "كولا".. والرابع هو علامة تجارية غير موجودة، تم اختراعها لهذه الدراسة العلمية..
شربت العيّنة من الأكواب الأربعة.. المشروب ذاته..
وأجمعت العيّنة على أنّ كوبي البيبسي والكوكا كولا حملا المشروب الأفضل مذاقاً..
وهو المشروب نفسه..
صور الرنين المغناطيسي أظهرت فعلياً أنّ العقل لم يبحث عن تصنيف المذاق عندما تقدّم المشروب بغلاف البيبسي والكوكا كولا، وكأنّه مقتنعٌ سلفاً بأنها تحوي الطعم الأفضل.. وكذلك لم يبذل مجهوداً لتصنيف مذاق العلامة التقليد، وأظهر عدم رضاً مسبق عن المحتوى.. فيما بذل العقل، نفسه، مجهوداً كبيراً، واستنفرت أعصابه أمام كوب العلامة المُخترَعة، ليتمكّن من تحديد موقفه منها..
وحكم في نهاية المطاف أنّها الأسوأ مذاقاً من الأكواب الأربعة..
وهو المشروب نفسه..
كم من تفسيرٍ وتفسير لهذا السلوك، يعصف في رأسي..وكم من سؤال! كم صورة نمطية يخلقها عقلنا؟ وكم صورة نمطية تحكّمت بمواقفنا وبآرائنا؟ وكيف نحدد فعلاً الفرق بين رؤيتنا الحقيقية للأمور، وبين كسل عقلنا؟ نعم، عقلنا كسول، يلجأ إلى خلق صورٍ تسهّل عليه الخيارات وردود الأفعال، والأفعال.. والأخ (العقل) مستريح، ما بدّو يشغّل أكثر من 5% من المادة الرمادية. يا سلام!
ومن باب الكسل، نقرّر أن علاقَتنا بالأحداث، وبالحكّام يمكن أن تقتصر على الحب أو الكراهية أو عدم المبالاة. حسب الصورة التي يبنيها لنا عقلنا عنهم، وعمّا يفعلونه.. وعقلنا يؤدّي أمامهم تحيّة إجلال، فهؤلاء يسهّلون عليه عمله.. يسهّلون عليه التصنيف.. وما إن يبني هو التصنيف، يجودون هم علينا بالدرر.. يحرّضون يميناً يساراً ثمّ يصرخون لا للفتنة.. يلعّبون عقلنا كالطابة، يتقاذفونه، وهو يتقاذفنا معهم..
كلّما أدركت ضعف عقلنا البشري، فقدت الأمل.. الأمل بالخروج من زوبعة العنف هذه.. من دوّامات الدماء.. وكلّما فقدت الأمل، متّ قليلاً..
أو ربّما كثيراً..
لا أريد أن أعرف..
0 Comments
Post new comment