لكم لبنانكم ولي لبناني..

"قريباً الناس سوف تأكل بعضها بعضاً في لبنان".. عمره لم يتجاوز الربع قرن، ولكنّه أقنعني. الأسوأ أنه أقنعني!!.. كنت آمل أن أجد تطميناً بأن الوضع في لبنان ليس بالسوء الذي أراه، وأن المشكلة نابعة منّي أنا وليس من البلد.. المشكلة في غربتي التي جعلتني "نيئة" (والنيئة هو تعبير لبناني يدل على أن المنعوت ليس سهل الإرضاء، ويكثر من الانتقاد). لكنّه هو يعيش هناك، لم يغادر بعد أبداً، نشيط وناشط.. يعمل، في المجال الذي يحبه، بداية ناجحة لمتخرج جديد.. لكنه لا يجد فسحة لأمل شبابه: أمل بوطن آمن، أمل بعدم ضرورة اللجوء إلى الوساطة لتأمين دراساته العليا.. ليس لأنه متشائم، بل لأن الواقع في لبنان، "واقع على رأس" القلة الذين يدركون خطورة ما تتجه نحوه البلاد. يدركون أن التحريض اليومي لا بد أن يخرج عن السيطرة يوماً ما. يدركون المفارقة التي نعيشها فمعظم ما نتباهى به، واقعه بعيد عن جمالية العنوان.

 

نتغنى بالديمقراطية، لكننا لا نعيش سوى المحسوبية. نظام إقطاعي بامتياز: السياسيون هم نفسهم أباً عن جد. شروط إنضمام الراغبين للطقم السياسي بسيطة: استثمر في الخارج، جمّع بضعة ملايين، وعد إلى لبنان، وبحسب طائفتك، نجد لك مقعداً نيابياً، أو وزارياً، أو ربما رئيس حكومة "ليش لأ". نعتذر لعدم توفر مقعد رئيس مجلس النواب، وبكل الأحوال، خبرتك في المجال التجاري لا تعطيك الخبرة اللازمة لإدارة جلساتنا البرلمانية حيث نسبّ بعضنا علناً، ونتهم بعضنا بالعمالة، وقريباً سنتراشق بالكراسي. ولذلك نذكرك بضرورة اشتراكك في بوليصة تأمين جيّدة حماية لحياتك. أما منصب رئيس الجمهورية، فهو منصب لا تشغله سوى بالترقية، وبالتالي إذا كنت إبن الطائفة المعنية وذلك هو طموحك، فعليك بدخول الجيش اللبناني، لأننا لا نتوافق في لبنان إلا على عماد الجيش اللبناني رئيساً للوحدة. تجربتنا مع الياس الهراوي لم تعجبنا، فقررنا أن الحل في مؤسسة الجيش.

 

نتباهى بحرية التعبير، لكنّ وسائل إعلامنا بأغلبها ملك لشخصيات سياسية، والبعض الآخر محسوب علناً على هذه الفئة أو تلك. لكن، إذا كنت صحافياً، لا تقلق، فأنت تملك الحرية الكاملة للتهجم على الطرف الآخر. ليلاً نهاراً يهاجمون بعضهم، لكنّهم ينادون بالعيش المشترك ووحدة لبنان عندما تطالب أنت باسقاط النظام الطائفي. فلبنان "نسيج مميز بطوائفه، وبالنظام التوافقي الذي يحترم هذه الطوائف".. وإن لم يتفقوا منذ عقد على الأقل.

 

أسوأ ما نتباهى فيه هو لبنانيتنا. فاللبنانية في لبنان تعني أنك لا تكترث لإشارات السير، أنك لا تكترث لانقطاع الكهرباء، أنك تعبر الطريق العام بعينين مغمضة.. باختصار أنك "مش سئلان" (لا تأبه لشيء).. الكل يقول أنه لا يوجد دولة، لكنهم ينتخبون الأشخاص نفسهم، لأن هذا النائب أمّن وظيفة لابنهم، وذلك أمر بتحسين الطرقات في حيّهم. من موسم انتخابي لآخر، يحضّر اللبنانيون لوائح مطالبهم، كما يحضّر الأطفال لائحة الهدايا لبابا نويل. بعضهم ينال جزءاً منها، وبعضهم لا ينال شيئاً، لكن ينتخب ابن طائفته على أي حال. لا أحد يعرف ما هي البرامج الانتخابية، فالميول السياسية في لبنان باتت منذ العام 2005 مبسّطة "إما أنت مع المقاومة أو أنت مع المحكمة الدولية"، والتقسيم إجمالاً طائفي بحت بين الاثنين. و لا لا، لا تحاول أن تقنعنا أنك مع الوطن فنحن من اسمك أو رقم سجلك نستطيع أن نحدد مع أي طرف أنت فعلاً، وإن كنت تظن الآن أنك لست مع أي منهم، لكننك ستشعر يوماً بالخطر الكبير المحدق بطائفتك، وبالتالي بوجودك أنت كإنسان. فمثل الشاطر، تفضل يوم الانتخابات وانتخب على أساس طائفتك، السيارة تأتي لتقلّك من منزلك كي نسهل عليك العملية الديمقراطية.

 

وبذلك، حتى وإن كنت تدرك أن لبنان يفتقر إلى الدولة، فأنت ستعزز، شئت أم أبيت، غياب هذه الدولة عبر عماك الطائفي، وعبر انجرارك وراء "حس إنقاذ الطائفة" الذي يبرع سياسيونا بإيقاظه في فترة الانتخابات. الشعب ملهي بالقيل والقال، وبرد فلان على فلان، وبالخطر على وجودنا الطائفي فلا وقت لديهم للتفكير بحقوقهم كمواطنين، ولا بواجباتهم. الشعب مشغول بانتقاد الثورات العربية وبالحسم أنها ليست مجدية "لأن الشعوب لن تغير النظام العالمي".. مشغول لدرجة أنه لا يملك الوقت الكافي للتفكير بثورة. وثورة على من؟ "إذا كنت تعني الثورة على النظام الطائفي، فأنت أبله تعاني من مشاكل بالتفاهم مع أهلك، ولذلك قررت أن تلوم الأديان. مشكلة لبنان ليست أبداً النظام الطائفي." ما المشكلة إذا؟ "البلد هكذا طول عمره، دوامة تدور".. معظم الإجابات تدور حول هذا المعنى..

 

لكم لبنانكم الدوامة، يدور ويسحبكم إلى القاع.. يأتي بعد الحزب ورئيس الحزب وزوجة رئيس الحزب.. ولي لبناني، لبنان الوطن يأتي أولاً وثانياً وثالثاً وآخراً.. 

لكم لبنانكم ترون ثروته بانقساماته وباختلافاته الطائفية. ولي لبناني، يحترم أبناءه، يؤمن لهم الوظائف والتعليم والكهرباء سواء كانوا يصلون الجمعة أم يصلون الأحد أو لا يصلون.

لكم لبنانكم تقضون على مؤسساته يوماً بعد يوم. ولي لبناني أبني فيه مؤسسات جديدة لغد أفضل..

لكم لبنانكم تتقاسمونه عشية كل دورة انتخابية.. ولي لبناني يتقاسمكم يوماً ما مع أبنائه حول مأدبة عشاء..

 

لكم لبنانكم الواقع اليوم... ولي لبناني الحلم.. يقع غداً..

 

 

Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
3 Comments
Majed, the Arab spring truly exposed us, lebanese :) SEIF, j'ai relu et relu mon article pour trouver où est-ce que j'ai utilisé des rythmes du Coran. Je n'ai pas pu vraiment les déceler, mais, peut être c'est plus évident pour quelqu'un de l'extérieur de les voir. Dans tous les cas, ça fait partie évidemment de mon éducation et ça peut certainement influencer ma façon d'écrire :)
"روعة" ، قال الدكتور علي حرب في مقابلة في برنامج اضاءات عن ثورة اليمن : (الثورة في اليمن فضحتنا في لبنان ، هم يُزيلون الطغاة ونحن نصنعهم ونألههم) في شوارع لبنان ، تطوف غنائمُ فاسدة : التأييد لسوريا ، خصامات أبناء المال ، حزب الله .. إلى آخره ، إلى آخره.
"Le faite de réutiliser un dès rythme dans le "Coran explique à quel point tu es croyante :))

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.