العطسة التي: آتشو

السابع والعشرين من ديسمبر.

استيقظت مثقلةَ الرأس بسبب زكامٍ يصيب كلّ من يجرؤ على تحدّي شتاء باريس القارس. وإن كان هذا العام ألطف من ما سبقه! كانت جدّتي تستخدم تعبير "الرشح مسقّط على ضهري". صباح ذلك اليوم شعرت بمعنى "سقوط" الرشح على الظهر، بكامل قوّته، بكل جراثيمه، وبأقصى درجات حرارته.

مرّ النهار بطيئاً، مليئاً بوصفات "التيتا" (أي جدتي بالعامّية اللبنانية). شاي مع حامض، ضمادات مياه وثلج و"اسبيرتو"، فيكس على الحلق. والوصفة السحرية، كما يصفها والدي، هي النوم. استيقظت منتصف الليل، بحرارةٍ منخفضة، ومعنوياتٍ عالية. بدأت أتفوّق على المرض. قرّرت، أن أزيح ثقله عن ظهري، وأن أمارس تمارين اليوغا. أنهيت نصف ساعة من المطمطة واستلقيت على سجادة التمارين.

و "آتشو"..
عطست!

أخبروني لاحقاً أن الجسد يتوقّف كلّياً عن العمل خلال أجزاء الثانية التي تحتلّها العطسة. لم أشعر في هذه الأجزاء أنني توقّفت عن العمل. ما شعرت به هو تجسيدٌ لمقدّمة فيلم "مهمة مستحيلة" حين يُشعَل فتيل المتفجّرة، وتبدأ بمسيرتها بأقصى سرعة.. شعرت بالنار تنطلق من ظهري إلى أسفل قدمي. وتوقّلإت عن العمل بعدها. لا أعرف كم من الوقت بقيت غائبةً عن الوعي. لكنني أعرف أنني استغرقت أربعَ ساعاتٍ بعدها كي أتمكّن من النهوض. كنت وحدي والهاتف بعيد عن متناول يدي. أربع ساعاتٍ مستلقية على ظهري عاجزةً عن الحراك. أربعُ ساعاتٍ أدركت فيها كلّ سلبيات الوحدة، وهشاشة الإنسان. الألم تحوّل إلى خدر بعد نصف ساعة، والقلق الذي سبّبه عجزي عن الحراك، تبدّد بعد حين في سحابات الأفكار. أدركت حينها أن ذاكرتي التي تعمل ليلاً نهاراً هي نعمة. كم كان الوقت ليمرّ ثقيلاً لولا مخيّلأتي وافكاري وذكرياتي.

تذكّرت حينها زميلةً لي، عندما كنت في الثالثة والعشرين من العمر. يومها عطست زميلتنا خمسَ عطسات مكتومة، وضحكنا. ليس لأن الأمر مضحك، بل لأننا كنّا نحتاج لأي سبب كي ننشغل عن العمل. حينها أخبرتنا الزميلة الأكبر سنّاً، أنّه لا يجب حبس العطسة، فذلك مضرٌ بالصحة، وأن لا شيء مخجل في العطسة. أجبتها أنني لا أحبس العطسة خجلاً، ولكنني لم أتعلأّم يومها كيف أخرجها. حاولت أن تعلّمنا. لكنني لم أكن أفهم كيف يمكن لعطسة أن تضرّ بالصحة!
عنيدةٌ أنا.. لا أجادل كثيراً، لكنني لا أقتنع إلا إذا تقدّمت لي كافة الحقائق. حاولت النهوض. لم أستطع. تأكّدت أنني يجب أن أتعلّم يوماً ما كيف أخرج العطسة. قلت لنفسي، بأي حال إذا كان الضرر هو "برقة ضهر"، مش مشكلة، ليس بالأمر الخطير.
لم أكن أعرف بعد أنّ العطسة قادرة مثلاً على تفجير الرئة!
لم تنفجر رئتي يومها..

العبرة الأولى: لا تحبسوا العطسة أبداً.
النصيحة: لضمان إخراج العطسة يُمكنُ  إلصاق اللسان في سقف الحلق وفتح الفم.

العبرة الثانية: أقنعني أحدهم يوماً بأنّ من يستمتع بالسينما، والمطعم، والسفر وحده، قادرٌ على العيش وحيداً. وأنا أقول إنّ من يستطيع تحملً المرض وحده، هو الوحيد القادر على العيش وحيداً.


- يتبع: العطسة والطوارئ-

قبل ثلاثةِ أشهر، عطست عطسةً غيّرتني، وشقلبت حياتي. سلسلة التدوينات المقبلة هي للحديث، ليس عن العطسة، بل ما تعلّمته منها، في أقل من تسعين يوماً.
Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
3 Comments
اذا عطست فحمدي الله علي انك نجوت من ان يتوقف قلبك الي الأبد كما يقولون تحميد للعاطس واجب شرعي
je suis vraiment très ému! En effet, parfois des incidents font de nous des personnes qui pensent et qui méditent pour en arriver à une même réalité: la vie de chacun d'entre nous est pleine de bienfaits et de beaucoup de grâces et ce que nous pensons être un méfait n'est en fait qu' une apparence de ce qui fait valoir notre vie. انشاء الله سلامتك وسلامة كل من له بصيرة مثلك.
A tes souhait

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.