العطلة والديتول.. وما بينهما
ثلاثة أسابيع من العطلة.. من أيام الفراغ المدفوع أجرها.. من "شمّ الهوا" الذي لا يُقتطع من المعاش..
نعم، بعد أكثر من عشرة أعوام من الوظائف بدوامٍ كامل، لا زلت لا أستوعب مبدأ العطلة السنوية.. في لبنان، كانت العطلة السنوية أسبوعين فقط، وكانت الإدارة "تطلّع روحك" لتوافق على أسبوع.. وعندما تعاود الدوام تحرص على أن تشعرك بالذنب وبالعمل المتراكم كي تحسب ألف حساب قبل أن تتجرّأ مرة جديدة على طلب عطلة..
حرب تموز ٢٠٠٦ كانت الوحيدة التي أعطتني عطلة ستة أسابيع بدون أن "تربّحني منّية".. لكن بدون أجر أيضاً وباستهلاكٍ كامل لكل ما ادّخرته من وظائفي المتعاقبة (أحب تعبير "كل ما ادخرته، ضيّعته الحرب" يوحي بأنّك "مدعوك" في الحياة)..
في فرنسا، قانون العمل يعطيك خمسة أسابيع من العطلة السنوية، يُضاف إليها بدل أيام العمل الإضافية.. لا أجرؤ بعد على طلب خمسة اسابيع متتالية.. من جهة أشعر بالذنب تجاه العمل، مع أن الجميل في مجال الصحافة أنّ العمل لا يتأثر في غيابك.. لا عقود متراكمة، ولا ملفات عالقة بانتظارك، ولا زبائن ينتظرون ردّك..
في الصحافة، الخبر سيصدر "فيك أو بلاك".. ومن الأخبار التي أسعدت أوّل أيام عطلتي، هو قرار القضاء اللبناني بقبول زواج نضال وخلود المدني. شخصياً لا أعرف لا نضال ولا خلود.. لكنّهما باتا رمز قضية الزواج المدني في لبنان.. شابٌ وشابة كل من طائفة، أرادا خوض مغامرة الزواج مدنياً في لبنان عوض الرضوخ لازدواجية قانون الأحوال المدنية الذي لا يقبل بزواجٍ مدني إلا إذا عُقد خارج لبنان.. ربما متعاقد مع قبرص مثلاً ويحصّل عمولة مقابل كل عقد؟؟
المهم، اكتشفنا بفضل زواج نضال وخلود أن القانون اللبناني يسمح لشخصين بالزواج مدنياً إذا كانوا لا ينتمون إلى أي طائفة.. ياااااااه عم تتخيّلوا لبناني غير منتمٍ لطائفته؟؟ واكتشفت بفضل زواج نضال وخلود أنّه يحق لنا أن نشطب طائفتنا عن الهوية! طبعاً في لبنان لا نحتاج لهوية لنحزر طائفة الآخر، فثالوث الهوية الطائفية يفضحك: اسمك، عائلتك، اسم أبوك.. واحدٌ من هؤلاء يفضحك.. لكن، شعرت أنّه إكراماً لكل من ذُبح "عَالهوية" خلال الحرب الأهلية، يتوجب عليّ أن أشطب طائفتي عن سجلّي، وإن كنت تزوّجت وخلصت..
"ذبح عَالهوية" عبارة لم أكن أفهمها في صغري.. كنت اسمع بأنهم عثروا على مقابر جماعية أو أنهم وجدوا "كومة" جثث مذبوحة عَالهوية.. وكنت أعتقد أنّ هناك قاتل متسلسل يلاحق الناس ويقتلها لأن صورة هويتها بشعة.. أوّل صورتين شمسيتين لي كنت "مشفترة من البكي"، كنت مقتنعة أنّها الصور التي ستطلق سكين البعبع عليّ.. عندما نوّروني على معنى التعبير، وجدت نظرية القاتل المتسلسل المعقّد من الصور البشعة أكثر منطقية من حجّة أن يقتل الناس بعضهم بعضاً بسبب اختلافهم في الصلاة..
بأي حال، خلال هذه العطلة الطويلة قرّرت أن أجلس جلسة مطوّلة مع منطقي لأعيد تأهيله.. يئست من منطقي الذي لا يرى سوى الجنون في هذا العالم.. فقرّرت أن أحاول قولبته ليتماشى مع "الهبل الضارب" كي أتوقّف عن الغضب عندما أسمع خبراً مثل لجنة حقوق الإنسان في الشورى في مصر التي تحمّل الفتيات المتظاهرات مسؤولية اغتصابهن ١٠٠٪!!
يا سلام! ده إيه التنوّر والتبصّر كلّه ده في حقوق الإنسان؟!!
يعني هو الأسوأ من النظرية، هو صدورها عن لجنة حقوق الإنسان.. تأكيد أن المرأة في نظرهم ليست إنسان!! هي حيوان أليف يجب أن تبقى في البيت، حيث نتعطّف عليها بملابس لتغسلها وتكويها.. هي تطبخ ونحن نأكل، هي تمسح الأرض ونحن ندوس عليها.. يعني الحمدلله هناك نشاطات متعددة ممكن تتسلّى فيها وهي "معزّزة مكرّمة في بيتها".. عاوزة تتظاهري ليه يا خالة نوسة؟؟ دي اللي بتتظاهر بتكون تبحث عن الاغتصاب! هذا هو التعبير الذي اختارته لجنة حقوق الانسان: "الفتاة المتظاهرة تبحث عن الاغتصاب مية في المية" يعني لا تبحث عن حقوق ولا عن مطالب ولا عن عدالة ولا عن التعبير عن رأيها، هي تنزل إلى ميدان التحرير فقط لتبحث عن الاغتصاب..
أتنفّس لأستعيد هدوئي فتخدّرني رائحة الديتول..
عندما وصلت إلى مطار أبو ظبي استقبلتني رائحة الديتول.. هذا المعقّم الذي تستخدمه جدّاتنا وأمهاتنا لكل شيء.. مفاجأتي الكبرى في فرنسا كانت جهلهم لوجود الديتول في الحياة.. لا ديتول في فرنسا!! حتى المستشفيات لا رائحة ديتول فيها.. لم أكن أتخيّل يوماً مستشفى بلا ديتول.. ولو! كيف يقتلون الجراثيم؟؟ كيف أؤمن بمعقّم لا يفوح رائحة الديتول؟ استنشق الرائحة وأشعر بالأمان، بالحماية من الجراثيم وبالهفهفة الحقيقية، وأخشى أن أكون... مدمنة ديتول!!
0 Comments
Post new comment