13 نيسان: كيف لنا أن ننسى؟

تكبرني الحرب الأهلية في لبنان بعشرة أعوام.. عايشت نصفها تقريباً.. لكنّ جيلي انتقص دائماً الشرعية بنظر الجيل السابق، في الحديث عن الحرب.. دائماً يطالعنا "جيل الحرب" بعبارة "يي انتو فرافير، ما شفتو شي".. جيل الثمانينات هو جيل النهاية بنظرهم.. جيل الفرج..


"شو شفنا من الحرب؟".. أحاول أن أسترجع ما رأيت.. أذكر المعابر.. لا أذكر تفاصيل من كان يديرها.. أو لماذا كانت متمركزة في البترون.. أذكر فقط الكلاشنيكوف، والعضل.. كنت صغيرة، أجلس في الخلف.. كل ما كنت أراه هو العضل! عضل الرجل الذي يدقق في الهويّة بيد، ويده الثانية على زناد الكلاشنيكوف.. كأنّه يخاف من أن تفلت منه الهيبة التي يعطيه إياها سلاحه.. أنا لم أكن أخاف.. كنت صغيرة، وكان الكلاشنيكوف أمراً طبيعياً.. تافهاً.. تماماً كالعضل.. تماماً كالهيبة التي يعتقد أنّه استحقّها لمجرّد تحكّمه بالسير.. تافهاً مثل أزمة المعابر..


أذكر أنّ أهلي كانوا يعاملونه باحترام، إلى أن يردّ الهوية وتقلّع السيارة، ويرموه بمسبّة.. لكن طالما أن الهويّة بيده، وطالما انّه لم يفتح لنا المعبر، يحاول أبي أن يبتسم، وأن يلفت نظره إلى وجود طفلة في السيارة.. الأطفال لا يؤثرون دائماً على أبو عضل.. لكن أحياناً لهم فعل "الخط العسكري".. وما أدراكم ما الخط العسكري.. الخط العسكري هو الجنّة على طريق بيروت، خط لا يسلكه إلا ولاد فلان وعلّان، حتّى الصليب الأحمر كان يحتاج لواسطة لعبوره..


مرّتان نجحت معي نظرة "الطفولة المشحتفة" بمنحنا حق عبور الخط العسكري.. كنت أملّ من الانتظار ثلاث ساعات، للوصول إلى عمّو أبو عضل.. ثم أنظر بعده.. بعده ليس الفرج.. بعده طوابير أخرى من السيارات، في أزمة سير خلقتها المعابر، والطريق الضيقة، والحفر، والسيارات القديمة التي "تحمى" من الزحمة وتتوقّف في وسط الأوتوستراد.. كان مشوار بيروت يستغرقنا ما يقارب الخمس ساعات ذهاباً، ست إياباً.. مشوارٌ يستغرقنا حالياً خمساً واربعين دقيقة إلى ساعة ونصف في قمة ازدحام السير.

.
علّمتني المعابر الصبر.. لكنّها ايضاً علّمتني التمثيل.. علّمتني المراهنة.. أرمي نظراتي البائسة استجداءً للعطف.. يا بتصيب يا ما بتصيب.. الخطّ العسكري كان انتصاراً لبراءة الطفولة على حقد الراشدين الأعمى.. علّمتني المعابر أنّني أقوى من الكلاشنيكوف.. ثم كبرت، وتعلّمت أنّ الكلاشنيكوف أقوى من الجميع.. وانّني فقط حالفني الحظ، عندما كنت طفلة..


أذكر من الحرب أصوات القتال، الانفجارات.. أذكر كيف تسمّرنا أمام التلفاز عندما أذاع خبر اغتيال رينيه معوّض.. لم أكن أعرف من هو بالتفصيل رينيه معوّض، فأنا كنت فقط في الرابعة من العمر.. لكنّني كنت قد استخلصت من الأخبار التي سبقت انتخابه رئيساً للجمهورية، أنّ رينيه معوّض يعني نهاية الحرب.. عندما اغتالوه بكيت.. كانوا يخبروني عن لبنان ما قبل الحرب.. سويسرا الشرق.. كان لبنان في مخيّلتي، أخضراً، مشمساً، جميلاً، هادئاً.. عندما اغتالوا رينيه معوّض، أدركت أنّني لن أرى يوماً هذا اللبنان الذي تحدّثني عنه جدّتي.. واعتقدت أنّ الحرب لن تنتهي أبداً..


لا زلت حتّى اليوم لا أعرف إذا انتهت الحرب فعلاً.. حتّى اليوم أكتشف ذيولها في نفسي.. نحن جيل الفرافير.. صحيح، ما شفنا شي من ما رآه أهالينا.. لكنّنا نرى الحرب كلّ يومٍ في عيونهم.. وهم يرونها فينا.. نحن عبارة عن بشرٍ مكسورين، يحاولون أن يتستّروا على الخلل الذي فيهم بيومياتِ حياةٍ نفشل في التآلف معها.. فالحرب خلّفت فينا فراغاً.. جعلتنا كائناتٍ غريبة عن باقي العالم.. كيف تريدون أن نكون سواسية؟ نحن الأطفال الذين كنّا ننتصر على الكلاشنيكوف، وهم الأطفال الذين يلعبون بالباربي؟ كيف تريدون أن نكون سواسية؟ نحن الأمهات اللواتي لم نكن نعرف إذا كنّا سنبصر النور غداً، وهنّ، الأمهات اللواتي يدّخرن لتعليم أولادهنّ الجامعي؟ كيف تريدون أن نكون سواسية؟ نحن الرجال الذين فقدنا أبناءَ، لا زلنا لا نعرف إذا كانوا أحياء أم لا.. وهم الآباء الذين يحارون بين شراء درّاجة أو لوح تزلّج لأبنائهم؟ ما هذه الهموم التي تريدون منّا أن نفكّر بها؟ كلّ يومٍ من الحياة "الطبيعية" ومن الهموم "اليومية" يذكّرنا بحربٍ دمّرتنا، عوّدتنا على العيش على حافةِ الموت، حتّى نسينا الحياة..


حربٌ كسرتنا جميعاً.. "اللي شاف متل اللي ما شاف!"
فكيف لنا أن ننسى؟

Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
1 Comments
عميقة هي تلك المشاهد المؤلمة و المخيفة للحروب و التي تترك أثرها في نفوس الأطفال يؤسفني و أننا رغم سعينا المتواصل لتوفير حقوق مناسبة لطفل ننسى أن حماية الطفل تبداء من حماية الأرض من الدمار و الحروب أطفال لبنان عانو كثيرا من الحرب في السابق و اليوم كبروا دون أن ينسوا تلك المشاهد إلا أنها أكسبت الكثير منهم إرادة قوية للحفاظ على السلام هذا الذي بدونه لن تتطور البلدان للأسف تتكرر في سوريا نفس المشاهد الأن الأطفال باتت ذاكرتهم مليئة بمشاهد كنا نراها في أفلام الرعب الأمريكية و أتذكر أنني قبل أربعة سنوات شاهدت أحد تلك الأفلام فبقيت مستيقظة حتى شروق الشمس لأنام و كل يوم كنت أنام بعد وصول النهار و كأن ضوئه يعطيني الأمان إستمر الحال لثلاثة أشهر متتابعه لم أكن طفلة لكنني كنت خائفة كا الأطفال كانت المشاهد لا تفارقني لذلك لم أستطيع أن أغمض عيني في الظلام و اليوم أرى من بعيد أفظع من تلك المشاهد التي أنتجها مخرجوا هوليود و أقف بذهول لأتسائل لماذا و كيف ؟ و قلبي يحدق في مدى بعيد حيث هناك طفل على الطرقات المدمرة تحت أصوات الرصاص يجلس و حيد ربما فقد أما أو أخا أو أختا أو أبا و ربما صديقا أشلاء ستمر على ذاكرته كلما تمتم بأسمائها و هناك أخر شريد تحت خيمة متواضعة بعد أن كان يلهوا مع إخوته و أصدقائة في الحي لقطات لن تنسى و قد تصنع ملاكا يدافع عن الرحمه و لربما صنعت شيطانا مليئا بالأحقاد يدمر كل شئ لينتقم . تحياتي نور الشام

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.