"صمٌ، بكمٌ، عميٌ"..
أحاول منذ فترة أن أصرف النظر عن "السجالات اللبنانية".. فمع أنّني لا أحمل أيةَ جنسيّةٍ أخرى (بعد)، إلّا أنني لم أعد أنتمي إلى لبنان.. أشعر أنّني لم أنتمِ يوماً إلى لبنان..
لم يعد وطني.. لم يكن يوماً وطني، ولا وطن أمثالي..
لطالما حرصوا على إبقائه وطنهم هم.. ونحن، أي كل من لا تعجبه "طريقة سير الأمور" (ما يُعرف بالنظام في الدول التي تعرف النظام).. لنا نحن، فتحوا أبواب السماء لنهاجر..
من هم؟ هم كل مستفيد من "طريقة سير الأمور"! من سائق سيارة الأجرة إلى فخامة الرؤساء وسماحة رجال الأديان.. بينهم المتعلّم، وبينهم "ابن العيلة"، وبينهم الحرامي والنصّاب.. لكن لا تعتقدوا أنّهم كلّهم أعضاء في المافيا.. فمنهم معلّمون في المدارس، يربّون أجيالاً تشبهمهم ويطفّشون من لا يشبههم، من دون سابق إصرار وتصميم.. منهم عامل في الضمان الاجتماعي، ومنهم بائع القهوة..
هم كل مؤمن بضرورة الإبقاء على النظام الطائفي في لبنان.. هم كل مؤمن أنّنا عشنا سبعة عشر عاماً من حربٍ أهلية لم تخمد أبداً، لنعود باتّفاقٍ يقضي بأن يحترم كل طرف النظام الذي قاد إلى الحرب (الله يسامحك يا استاذ الابراهيمي).. كما رئيس الاستقلال الأول بشارة الخوري، يبقى الرئيس مارونياً.. وكما رئيس الوزراء الأول سامي الصلح، يبقى رئيس الوزراء سنّياً.. وتُبنى باقي مؤسسات الدولة تباعاً على مبدأ المحاصصة الطائفية..
يعني باختصار، يمكن أن يكون ابنك آينشتاين العرب لكنّه إذا لم يوافق الكوتا الطائفية فإنّه لن يحصل على وظيفة في القطاع العام.. ويمكن أن تكون ابنتك ماري كوري العرب لكنّها لن تتمكّن من الحصول على عقد عمل كأستاذة في الجامعة اللبنانية إلا إذا كانت من الطائفة المعنيّة بالوظيفة.. الأفضل أن تكون ابنتك مارلين مونرو العرب، تستثمر بعملية تجميل أو أكثر إذا ما اقتضى الأمر، وتشتغل "مؤدّية" (نقلاً عن آخر آفات المجتمع اللبناني، لارا كاي).. أمّا ابنك، فمش مشكل، امشي معنا وإلا ما نلاقيلو وظيفة بالقطاع الخاص..
القطاع الخاص في لبنان هو عبارة عن مشروعٍ انتخابيٍ كبير، يمتلك أغلبَه زعماؤنا السياسيون.. يتاجرون بالوظائف للحصول على الأصوات، فالشركات في لبنان ليست مصدر دخلهم الحقيقي، بل استثماراتهم في الخارج.. ما لديهم في لبنان هو مصروف جيبة، إذا "نقشت معن" ينجحون بالسرقة من الحكومة بضعة مليارات دولار.. وإذا ما "نقشت"، ونادراً ما يحصل ذلك، تبقى الشركة مصدر أصوات.. نؤمّن لابن فلان وظيفة مهمّة لأنّه مفتاح انتخابي، ونعطيه خمسة وظائف أقل شأنأً يوزّعها على أتباعه من الناخبين..
قريباً يوزّع في لبنان دليل الواسطات.. كي لا تضيّع وقتك بالتملّق للواسطة الخطأ، فزحمة السياسيين على الساحة باتت خانقة..
أفضل وظيفة في لبنان أن تصبح نائباً.. معاش مدى الحياة، حصانة قضائية، بدل سكن، بدل سيارة، تعليم للأولاد.. يُصرف في الجامعات الخاصة طبعاً، فلا أحد من السياسيين يؤمن بالجامعة اللبنانية.. على العكس، بعض الساسة فتح جامعته الخاصة، مصدر ربح أكيد، مالياً وانتخابياً.. يقدّمون وظائف، يقدّمون منحاً كاملة وجزئية.. وبعض التلاميذ يدفع الأقساط كاملة، فتبقى الجامعة ربحانة..
أمّا الجامعة اللبنانية، فتتّبع المحاصصة الطائفية.. الفرع الأوّل للمسلمين، والفرع الثاني للمسيحيين (أو العكس).. في الكلّيات التي تفرض امتحاناً للدخول للحد من عدد الطلّاب، عليك بالواسطة الطائفية..
نعم، هم، يسيّرون البلد كله من مبدأ المحاصصة الطائفية.. تشبّعوا منه، حتّى أنّهم لم يعودوا قادرين على تخيّل كيف تكون الأنظمة بدون الوساطات وبدون التملّق.. تشبّعوا منه حتّى بات من الطبيعي أن يصدر مشروعاً انتخابيا على نمط المشروع الاورثوذوكسي.. طبيعي أن نقول إنّ السماح للمرأة بتجنيس أولادها يهدد التوازن الطائفي في البلاد، ويهدد المصلحة العليا للوطن، لأنّ عدداً لا بأس به من النساء المتزوّجات من أجنبي متزوّجات من فلسطيني أي سنّي.. والسنّة طائفة كبيرة، فكيف نعطيها الأغلبية في البلاد؟؟!! بدون خجل تسمع هذه التبريرات علنيةً!
وتأتيهم اليوم فئة من الناس: تسعُمئة سنوياً يلجأون إلى قبرص للزواج المدني، أضف عليهم من يتزوّج في دولٍ أخرى مدنياً دون أن يسجّلأ الزواج في لبنان.. تأتيهم هذه الفئة للمطالبة بالزواج المدني "الاختياري"، فيعلنون الجهادَ ضدّه.. "صمٌ، بكمٌ، عميٌ"..
رئيس الوزراء يقول إنّ الآن ليس الوقت للخوض في هذه السجالات التي تشعل الطائفية.. متى يحين الوقت معاليك؟؟ وكيف يؤجج الزواج المدني، حيث تقبل عائلة من طائفة ما بعائلةٍ من طائفةٍ آخرى، كيف يؤجّج التقبّل لهذه الحدود الفتنة الطائفية؟؟
في لبنان، نتباهى بأنّنا بلد صغير تعيش فيه 17 طائفة، وأنّنا مثال للعيش المشترك.. لكن عندما يريد أبناء الطوائف الزواج من بعضهم، غالباً ما تقوم القيامة.. فقل لي معاليك، كيف يهدد هؤلاء الألف سنوياً، هؤلاء الألف الذين غالباً ما يكافحون سنيناً عدّة ليقنعوا عائلاتهم بتخطّي الأحقاد الطائفية وتقبّل خياراتهم، كيف يهدد هؤلاء السلم الأهلي؟؟..
المفتي (ومعظم القيادات الدينية مسيحية وملسمة) يعترض اعتراضاً شديدَ اللهجة على الزواج المدني "الاختياري" لا بل يقيم الحدّ عليه.. ويصف كلّ متزوّجٍ مدنياً بالمرتدّ.. وصفٌ يعني في الإسلام إباحة دم الموصوف لأنّه كافر..
سماحتك، كل الكفر اللي مشلّش بلبنان (من منطلق منطقك، وليس من باب قناعتي)، تركته كلّه لتقيم الحدّ على شخصين أحبّا بعضهما ولم يحالفهما الحظ بأن يرفّ قلبهما لشخص من الطائفة ذاتها.
يعني إذا لم يزنِ المتزوّجون مدنياً، ولم يقتلوا، ولم يسرقوا، وحتّى أنّ بعضهم يؤدّي فروضه الدينية بانتظام، ويؤدون الإحسان، ولم يؤذوا أحداً، وأنشأوا تربيةً صالحة، أتقنعني حقّاً أن الإله الذي غفر لشخصٍ قتل تسعةً وتسعين رجلاً لمجرّد أنّه مات وهو في طريقه للتوبة، أتقنعني أن هذا الإله لن يغفر لهؤلاء لأنّهم تزوّجوا مدنياً؟؟ سماحتك، لن أجادلك في الشرع، فلا أدّعي الفقه بما لا أفقه به كثيراً.. لكنّني أجادلك بالإنسانية.. أحقّاً تفضّل أن تعيش ابنتك حياةً تعيسة مع زوجٍ لا تحبه، أو بدون زوج، لمجرّد أن نصفها الآخر كان من طائفة أخرى؟؟ ستقول لي نصيبها في الجنّة، أعرف..
طيّب، شيلونا من الجنّة والحلال والحرام.. لنعد إلى الأرض حيث نعيش بمعدّل الستين عامأً تقريباً، والله يطوّل بعمركن أكتر.. هنا على الأرض، في هذه البقعة التي اسمها لبنان.. نظامٌ طائفي يلغي مفهوم الدولة، يلغي مفهوم القانون.. ويلغي أي مفهوم للعدالة.. أتعرفون انّ الطلاق في المحاكم الشرعية اللبنانية يتغيّر بحسب واسطتك ومعرفة أهلك بالشيخ؟؟ فإمّا تطلّق المرأة وتحصل على حقوقها ولا تواجه خطر بيت الطاعة، وإمّا تُذلّ مذلّة الحيوانات حتّى تتوب عن رعبتها في الطلاق؟؟ فعن أي شرع تحدّثونا؟ وأية قوانين إلهية عادلة تطبّقونها بحسب أهوائكم؟؟ أما آن الوقت للكف عن النفاق؟؟
من هذا المنطلق أنا مع الزواج المدني "الإلزامي" ومع قانونٍ مدني للأحوال الشخصية..
أنا مع اي قانونٍ يقطع الحبل بين اللبناني وطائفته، وواسطته، وامتيازاته الطائفية..
أنا مع أي قانون يبني جزءاً من المواطنة المفقودة بتاتاً في لبنان..
فليكفّ الصغار عن التعلّق بـ"طريقة سير الأمور" في لبنان.. وليكفّوا عن الإيمان بأنّها الطريقة الوحيدة للعيش في لبنان، فلم يمت أحدٌ في أوروبا من الزواج المدني! ولم تتقاتل عائلتان بسبب زواجٍ مدني جمع أبنائهما..
وليكفّ الكبار عن النفاق والحجج الواهية، وليعترفوا أنّهم يعترضون لأنّهم ببساطة لا يريدون أن تتغير "طريقة سير الأمور"..
لأن التغيير يعني رحيلهم..
وبرحيلهم قد يعود لبنان الوطن..
لبنان الذي لا تريدونه يوماً أن يكون..
1 Comments
Post new comment