"مين مفكّر حالو؟"
مع أنني لا أؤمن بالتقويمات الزمنية التي اخترعناها لننتصر على مرور الوقت، إلا أنني أحبّ نهاية السنة.. أحبّ هذه الفترة التي نشعر خلالها بضرورة جردة حساب، العودة على أحداث حياتك وكأنها محطّات زمنية متباعدة، واضحة المعالم، ثابتة في الوقت.. وهي ليست سوى لحظةٍ تجرّ أخرى.. أحبّ هذا التطلّع إلى العام المقبل، والمشاريع التي نقررها والقرارات التي نؤجلها للعام الجديد، وكأن الواحد من كانون الثاني يناير يحمل معه بدايةً جديدة، كأنه يختلف عن يوم الغد، كأنّه يلغي الأمس.. وكأنّ العداد ينطلق من الصفر مرّة جديدة.. وكأن العام الجديد لا يعرف ذنوبنا وأخطاءنا..
غريبٌ كيف نهرب من أخطائنا ونبروز نجاحاتنا على الرغم من أن الأخطاء هي جزءٌ من تجربة "الحياة"!.. ربما لندرة النجاحات.. وربما لمجرّد الكبرياء.. هذه القناعة بأننا يجب أن نكون أفضل، وأن الأفضل لا يخطئ.. الأفضل يعرف طريقه ولا يقع في الحفر ولا يغيّر مساره عند أوّل عقبة..
الكبرياء.. ميزة ربما، لكنّه أغلب الأحيان يتحوّل إلى التعالي.. حتّى على أنفسنا نتعالى.. حتّى بيننا وبين أنفسنا، نفضّل أن نكذب، فقط لنتعالى على ما نراه ضعفاً.. وهو إنسانية..
"مين مفكّر حالو؟" كان يتحدّث عن الرئيس السوري بشار الأسد عندما استخدم هذه العبارة.. جملةٌ خانته، بعدما أمضى ساعةً ونيّف يقنعني، أو يقنع نفسه، بأن انشقاقه عن النظام السوري كان لأن ضميره لم يعد يحتمل السكوت عن الجرائم.. لم أكن استجوبه أصلاً... فأنا لست هنا لأحكم عليه، وأنا أكيدة أنني حتّى لو حكمت فهو لا يأبه لحكمي.. ربّما كان يتدرّب أمامي ليصدّق ما يقوله، ليقتنع هو به.. قال إنه سكت بقدر ما سكت الشعب السوري، وكأنّ السكوت ليس جريمة عندما يكون جماعياً.. لماذا تسكت الشعوب على الظلم؟ كيف ينجح شخصٌ وحده بالسيطرة على ملايين؟ قرأت العديد من النظريات... كلّها تجمع أنّ الإنسان بحاجة لقائد.. ربما ليتحمّل هذا القائد مسؤولية القرارات الخاطئة؟ ربما لنلقي عليه اللوم؟ لنتمكن من تحديد شخصٍ واحدٍ نحاسبه عندما يطفح بنا الكيل؟ ألذلك نسكت نسكت ثم نثور؟ ثم ماذا؟ نأتي بشخص آخر يخطئ نيابةً عنّا؟ إلى ماذا سيفضي هذا الربيع العربي فعلاً إذا لم نشكك بأنفسنا أيضاً بقدر ما نشكك بالآخر؟؟
لكنّني متفائلة.. فطالما يطول هذا الربيع طالما تُتاح الفرص للناس بالتشكيك بنظرتهم وتعاطيهم مع صورة القائد.. لكنّي أخاف من أن يطفح بهم الكيل من الثورة قبل أن يصلوا فعلاً إلى نتيجة "مطمئنة"..
متفائلة لكن منهكة.. أنهكتني الطبيعة البشرية هذا العام (من باب جردات الحساب).. ربما كان يجب أن أحمي نفسي من النظر إليها وجهاً لوجه.. ربما كان من الأفضل أن أشيح بنظري تماماً كما نفعل عندما نمر بجانب مشرّد يحتل جزءاً من الرصيف.. تماماً كما نشيح بنظرنا عندما نرى أماً تعنّف ابنها بطريقةٍ وحشية، وهو ينظر إلينا بعينين يئستا من البحث عن من يفهم أنّ ما يتعرّض له ليس مجرّد تربية صارمة.. كان يجب أن أشيح بنظري تماماً كما نفعل عندما يقف بجانبناً شخصٌ يرتدي ملابساً رثة وحذاءً أُكل نصفُه.. لماذا نشيح بنظرنا؟ بعضنا ربما خجلاً.. والبعض الآخر ربما أنانيةً.. والبعض ربما لا مبالاةً.. في جميع الحالات، قلّة هم من يمدّون يد عونٍ حقيقية.. وأنا، أعترف بخجل، لست من هذه القلّة.. أنا جزءٌ من هذه البشرية التي أنهكتني هذا العام..
هذه البشرية التي يمكن أن نراقبها على حقيقتها في عالم الأطفال، قبل أن يتعلّموا تغليفها بتبريراتٍ واهية، قبل أن يتعلّموا خدعة العبارات الشاعرية.. ألفتكم يوماً تصرّف الأطفال تجاه من يصنّفونه غريباً عنهم؟ كيف يعزلون زملاءهم "غريبي الأطوار"؟.. وكيف تتوزّع الأدوار بينهم؟؟ قائد "الطبيعيين" يتولّى مهمة المضايقة المباشرة لـ"غريب الأطوار" كلامياً أو جسدياً، بالإهانات والسخرية أو بالضرب.. "الدائرة الضيّقة" للقائد، هم أطفالٌ لهم شخصية قوية لكن ليس بقووة شخصية القائد أو لياقته البدنية.. وبالتالي يلعبون دور الحاشية الراقية: يصفٌّقون للقائد، يضحكون لما يقوله وقد يرددون ما يقوله وأحياناً قد يشاركون بالضرب والإهانة لكن بتحفّظ، فهم لا يريدون المواجهة مع القائد، ولا يريدونه أن يظن أنّهم يسعون إلى سرقة الأضواء منه.. الفئة الثالثة هي أغلبية وهي من تبقّى من الأطفال خارج دائرة القيادة القطرية وخارج دائرة "غريبي الأطوار".. هؤلاء سنسمّيهم فئة "من الحيط للحيط، يا ربّي السترة".. هؤلاء صامتون، على الرغم من أنّهم الأغلبية.. فعددهم لا يشعرهم بالثقة الكافية لتحدّي القيادة، فهم ببساطة لا يشعرون أنّهم كتلة (من وحي نظرية كارل ماركس).. هم أفراد لا يملكون صفات القائد، ويخشون من أن يُصنّفوا في دائرة "غريبي الأطوار" إذا ما تفوّهوا بكلمة لا تعجب القيادة العامة.. فيعيشون على هامش الصراع قدر الإمكان.. يصفّقون عند الحاجة، لكن أغلب الوقت، يبتعدون عن ساحة المواجهات.. فهم يشعرون بظلم القائد لكن يخشون أن يأكلوا منها نصيباً، وبالتالي لا يصطفّون بجانب الضعيف، يعلنون ولاءهم للقائد إذا ما أجبرهم على توضيح موقفهم.. لكن، أغلب الأحيان، يعيشون على الهامش، شركاءٌ صامتون.. "من الحيط للحيط، يا ربي السترة"!
قرأت في مقالٍ عن الحياة اليوم في سوريا، شهادة أحد سكان دمشق، قال:"15% من الشعب مع الأسد، و15% ضدّه، ونحن، البقية، عالقون بينهما".. شاءت الأقدار أن تربطني معرفة بأحد هؤلاء الـ70% العالقة.. شخص كنت أعهده متفائلاً، بشوشاً، دائم الضحكة.. كلّمني، والعجز واليأس يكادان يخنقانه.. سألني: "طمنيني، عندك خبر إمتى حنخلص؟".. تمنّيت لو تبتلعني الأرض.. أكره هذه السلطة التي يعطيني إياها البعض لمجرّد أنني صحافية.. وأكره هذه السلطة التي يستغلّها بعض الصحافيين ليعيشوا وهماً بأنّهم "يملكون الحقائق، وأنهم فهموا اللعبة".. ما أكرهه أكثر هو أنني لا أملك الإجابة، وأنّني أخشى أن "يخلص" الـ70% بالمئة قبل أن "تخلص" الأزمة السورية..
وللجردة بقية..
2 Comments
Post new comment