وصايا الحصيلة..

وصية رقم واحد: الميت 15/102، سوريا

أنا الميّت رقم 15 من أصل الحصيلة التي ترددونها اليوم على أنها 102.. كيف قُتلت؟؟ لا أدري فعلاً..كنت جالسة أفصفص اللوبياء..  أكان برميلاً؟ أم قذيفة؟ المهم أن آخر ما رأيته هو السقف ينهار فوق رأسي.. الموت سريع صراحة، فاجأني.. أردت أن أركض لأحمي ابنتي، لم أعد أعي إذا تمكنت من ذلك أم لا.. هنا لم أتعلّم بعد كيف أبحث في دليل الأرواح،كي أبحث عنها.. لا يزال الموت حديثاً عليّ.. لكن يبدو أنني هنا لست أنثى ولا ذكرا.. لا أدري ما هو جنسي.. "يمكن أحسن، أخف لبكة".. لكن لا تشغلوا بالكم بي فحياتي هنا تبشّر بالخير، لم أر بعد أية مظاهر مسلّحة.. ولا يبدو أنه يوجد أي حساسيات.. على الرغم من أن عددنا كبير هنا، "والله ما كنت حاسبتن هالقد".. بس "الحمد لله في محل للجميع".. غريب.. الآن فقط تنبّهت إلى أنّه حتى على الأرض، هناك مساحة كافية تتسع الجميع.. لماذا إذاً نتقاتل؟ المهم، أردت أن تطمئنّوا على زوجي، هذا كل ما أطلبه، هو مسجون في مكان ما، أشعر أنه لا يزال على الأرض حياً.. لا تنسوه!

 

وصية رقم 2: الميت 1/3، لبنان

أنا الطفلة التي تحدّثتم عنها أمس في الأخبار. فرحت جداً عندما علمت أن محطات التلفزة انشغلت فيني. كنت أريد أن أطلّ يوماً ما عبر التلفاز، أنا محظوظة لأنني تمكنت من ذلك في هذا العمر الصغير.. أصدقائي في المدرسة سيغارون مني بالتأكيد.. حتى الموت سيثير حسدهم.. فأهالينا دائماً يخبروننا أن الأطفال يدخلون الجنة مباشرة، بلا ترانزيت.. سأشتاق إلى أهلي ربما.. لكن هم سيشتاقون إلي أكثر.. أنا أكيدة أن أمي تبكي الآن.. لا أريدها أن تشعر بالذنب لأنها تركتنا نخرج إلى الشارع لنلعب، أنا المذنبة لأنني أفقدتها صبرها بمطالبتي الملحة وبيتنا الصغير لا يتسّع لنقّ ولدين معاً.. أخبروها أنه ليس ذنبها، وأنني أحبها، وأنني لا أريدها أن تعطي دبدوبي المفضّل لأختي الصغيرة.. أعرف أن الأنانية ليست جيّدة لكن هذا كل ما أريده من حياتي التي انتهت أن يبقى دبّي لي وحدي..

 

وصية رقم 3: الميّت 1/1، مصر

نعم أنا الميت واحد من أصل واحد لليوم. لا تحصوننا أبداً، أنا ومثيلاتي. نحن اللواتي اخترنا الانتحار كحلٍ لحياةٍ في مجتمعٍ يبرر التحرّش بنا، ويسمح للأيدي أن تمر مرور الكرام على أجسادنا، وكأنه طريق عام.. أرض مشاع للعامة.. نحن اللواتي عوّدنا أنفسنا على التحرش الجنسي وسكتنا وحاولنا أن نتأقلم معه على أنه واقع يومي نعيشه ببساطة تحت أعين الجميع، نصرخ فنخلق بلبلة تشكّل فرصة لأيدٍ أخرى تتسلل إلى أعضائنا الحميمة.. أيادٍ مختبئة تحت أعين المتجمّعين ليشهدوا أو ينددوا بما يجري.. لا لم استسلم للتحرّش الجنسي، فقد بات حالةً اجتماعية يغض الجميع النظر عنها ليتركوننا بسلام نلملم فتات أنفسنا التي تبعثرت تحت أيادٍ لا تعرف إلهاً.. التحرّش مشكلة، لكن الاغتصاب مصيبة.. الاغتصاب كسرني.. ولم يترك لي أي روح أتكئ عليها لألملم شتات نفسي.. الاغتصاب مصيبة.. لم أعد أجرؤ على النظر إلى وجه أبي، وكأنني أنا المذنبة.. لم أجرؤ على الذهاب إلى الشرطة، فتجربة إحدى صديقاتي علّمتني أن الشرطة تحمي المغتصب أولاً.. استغرقت وقتاً لأفهم لماذا يشككون بكلام الضحية مراراً وتكراراً حتى يقنعوها بالتخلّي عن شكواها.. الإجابة سخيفة في الواقع، مضحكة مبكية.. فالشرطة ببساطة تدرك أنها إذا بدأت بالحزم مع المغتصبين فالسجون ستمتلئ بأكثر مما تتحمّل طاقتها، والشرطة ستنشغل بقضايا لا تعد ولا تحصى، تشغلها عن قضايا أكثر أهمية مثل حفظ "الأمن".. حفظ حرمة جسدي ليست من أولويات الشرطة.. صرفت الفكرة مباشرةً.. لكنني لم أعد احتمل هذا الشعور بنصر المغتصب يخترقني كل يوم، كل لحظة.. كلما تحدّثوا عن زواجٍ جديد أشعر به يحرمني من زوج أنا شبه أكيدة أنه لن يتقبّل غياب عذريتي.. أعتقد أن الموت أرحم من الاغتصاب.. فالاغتصاب يأتي مع ذكراه تذلّك يومياً في كل لحظة تباغتك فيها.. وعدم القصاص من المغتصب يزيد الطين بلة.. لا شيء أسوأ من القهر الصامت.. يقتلك يومياً! لم أعد أحتمل.. قلّة هن من يحتملن.. وصيّتي؟ اقتصّوا يوماً ما من مغتصبي، فحتى الموت فشل في إنقاذي من الشعور بالظلم..

 

وصية رقم 4: الميّت 452/404، سوريا

ايه ايه أنا الميّت 452 من أصل 402، أنا وآخرون تعذّر عليكم أن تحصونا، مش مشكل، لا عتب عليكم يا سيدي، نحمّلكم معنا ما يفوق طاقتكم فنعذركم.. وأصلاً كما بقول التعبير "العفريت الأزرق وما حيقدر يعرف وين دافنينا!" أنا أيضاً لا يمكنني أن أدلّكم على مكان تواجد جثتي.. لأنني صراحة، أخجل أن أعترف أنني غبت عن الوعي قبل أن أموت، "هه هه، شاهد ما شافش حاجة" لا أعرف لا كيف مت ولا أين دُفنت، لكن أعرف أن الموت أعاد لي الفرحة.. "يمكن متت من كتر التعذيب.. ويمكن دفنوني حيّ. ويمكن قتلوني لأن ما عاد إلهم صبر يعذّبوني.. هيك كنت اتمنى تحت التعذيب"، ان يسأموا من صراخي، أو أن تؤلمهم يدهم من كثرة ضربي فيقرروا أن يرتاحوا مني ويقتلونني.. أنا أكيد أن حياتي لا قيمة لها عندهم، وأنا أكيد أنهم على يقين أنني درويش ولا معلومات لدي عن أي شيء.. هو الظابط لم يعجبه شكلي عندما داهم منزلي، بحسب المحقق أبو عضل، الذي أخبرني أن الظابط استشعر بأنني سأنضم إلى الجيش السوري الحر.. "والله عم اضحك هلّق مش زعلان ما تخافوا.. عم تتخايلوا بس المسخرة؟" قتلوني لأن الظابط استشعر.. واستشعر أنني سأنضم مع سين مفتوحة كبيرة بحجم عضل أبو فلق.. يعني عذبوني كي أعترف بأفكارٍ قد تراودني يوماً ما.. ربما هم على حق، ربما هكذا يُضبط الأمن باعتقال الأفكار المستقبلية.. المهم، بلا طولة سيرة، زوجتي وأبنائي قادرون على تدبير أمورهم، لكن أمانة، وصيتي إذا عثرتم على جثتي أعيدوها إلى التراب بعيداً عن نظر والدتي، لا أريدها أن ترى ما صابني.. ستقتلها رؤية جسدي المنتهك من كافة المداخل والمخارج..

 

 

ملحوظة 1: الخيال في هذه القصص لا يلغي أنها واقعاً نعيشه..

 

ملحوظة 2: هذه المدونة لجورجيت ساركيسيان (الضحية الثالثة في تفجير الأشرفية)، وللآلاف في سوريا لا نذكرهم بالإسم، لضيق الوقت.. أعتذر منكم، صدقاً أعتذر.. كل مرة أذكركم فيها كمجرد حصيلة، أتمنى أن تبتلعني الأرض.. كلما شملتكم، وأحباءكم، وقصصكم، أشعر أنني أقتلكم مرةً جديدة.. أعتذر لأنني لا أملك سوى أن أذكركم بأعدادٍ تفقد قيمتها كلّما ترتفع.. لكل النساء حول الأرض اللواتي يؤثرن الانتحار على حياةٍ فرغت معانيها على يد مغتصب، أعتذر لأننا حتى اليوم لم نتمكن من حمايتكن.. للأطفال الذين يموتون، هنيئاً لكم أنكم لم تعيشوا بما فيه الكفاية لتروا بشاعة الإنسان الحقيقية..

 

Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
0 Comments

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.