الفيلم والرسول.. والتماسيح..
هناك تعبير لبناني، ربما موجود في بلدان أخرى، يقول "تمسح جلدنا" أي أننا لم نعد نشعر بشيء.. فالتمساح على ما يبدو يُعتقد أن سماكة جلده تمنعه من الإحساس بأي شيء آخر.. لكنني لطالما تساءلت عن التعبير الآخر: "دموع التماسيح"، والتي تعني الدموع الكاذبة، الخادعة.. فإذا كان التمساح لا يشعر بشيء، لماذا يجد نفسه بحاجة للتظاهر بأنه يشعر؟
نعم، سأتحدّث عن التماسيح.. لم تكن هذه نيّتي.. فكنت أريد أن أتحدّث عن "الفيلم".. هذا "الفيلم" العجيب الذي احتل العقول والمشاعر والعواطف.. الذي احتل العناوين الأولى لليوم الرابع؟ الخامس؟ وربما السادس، على التوالي..
هذا "الفيلم" الذي لا استطيع سوى أن أضعه بين مزدوجين، فهو كما قال العديدون اعتداءٌ سافر على صناعة السينما، حتى الركيكة منها.. واكتشفنا بعد حين أنه من فئة الصناعة البورنوغرافية.. وهذا يفسّر كل الهستيريا.. فكأي فيلم بورنوغرافي، نجح "الفيلم" بإيقاظ كل الغرائز التي أراد إيقاظها..
كنت أريد أن أقول أنني لا ارى أن منتج الفيلم أراد ان يعبّر عن رأيه بل أراد أن يبث الكراهية ويشجع على اضطهاد المسلمين، وهو الأمر الذي قاله بعظمة لسانه في عدة مقابلات، عندما كان لديه نوع من المصداقية.. قبل أن نكتشف أنّه فنان في العمليات الإحتيالية..
كنت أريد أن أقول إنني أشجّع الجمعيات المسلمة في الولايات المتحدة على رفع دعوى ضد المنتج والقس الذي أراد ترويجه، بتهمة معاداة الديانات. تماماً كما تقوم جمعيات يهودية برفع دعاوى ضد من تراهم معادين للسامية.. لكن، الشارع سبق هذه الجمعيات فلم يترك لها مجالاً للتحرك القانوني.. كما أن أحدهم لفت انتباهي إلى أن هذه الجمعيات تتفادى ربما تحركات مماثلة كي لا يتهجّم عليها المتشددون بحجة أنها تلجأ إلى قوانين الإنسان وليس إلى شرع الله.. معضلة، فعلاً!
كنت أريد أن أحكي واقول، أن أندد، أن أعبر أنا أيضاً عن غضبي من ما أظهره المسلمون للعالم منذ أسبوع.. أردت أن أتفهم أيضاً، أن أبرر أن أشرح، أن أدافع.. أردت أن أحتج ضد الجميع.. وأن أبرّئ الجميع في آن معاً..
ثم ارتأيت أن لا الفيلم ولا ردود الفعل ، لا الغضب ولا الشماتة، يستحقون مساحةً أكبر من تلك التي شغلوها حتى الآن، والتي يبدو أنهم سيستمرون بشغلها إلى أن "تهدأ النفوس".. لا "الفيلم"، ولا النفوس الغاضبة يستحقون أن يسرقوا الأنظار عن أطفالٍ يُقتلون يومياً في سوريا.. عن خمسةِ ملايين يعانون من الجوع في اليمن. عن آخرين يذهبون إلى السوق في العراق ليعودوا لأهاليم أشلاء.. لا أحد يستحق أن يسرق أنظارنا عن هؤلاء الذي يُقتلون لأنهم طالبوا بالحرية.. لا أحد يستحق أن نشيح بأنظارنا عن جرائم ضد الإنسانية بأبسط معانيها، وبالتالي ضد الدين الذي هبّت شهامتكم للدفاع عنه.. لا أحد يستحق أن نشيح بنظرنا عن أعراضٍ تنتهك، عن عائلاتٍ تُمزّق وتُهدم وتُطحن.. لا أحد يستحق أن ننسى عشرات الآلاف القابعين في السجون بتهمٍ لا تعترف بها لا الأديان ولا القوانين..
لا أحد يستحق أن يسرق أنظارنا وإن كنا قد اعتدنا أن نحدّق بالظلم كمن يغوص في العدم.. كأننا نريد أن نقنع عقلنا أن ما نراه من صنع أعيننا، لا أكثر.. كأننا نرفض أن نرى، لأنّنا لا نريد أن نعترف أننا لا نملك الجرأة على النظر أكثر، على مواجهة عجزنا وضعفنا.. أو ربما كي لا نضطر إلى الحركة.. إلى الرد..
الرد الذي تركتم "الفيلم" يسلبه منكم بكل خفة ورشاقة، بينما فشل الآلاف بتحريككم وهم يستنجدون بإنسانيتكم...
عودة إلى البداية: إذا كان التمساح لا يشعر بشيء، لماذا يجد نفسه بحاجة للتظاهر بأنه يشعر؟
1 Comments
Post new comment