لبنان.. المنتصر دائماً على التغيير!
"إذا كنت تظن أنك تفهم لعبة السياسة في لبنان.. فأدرك أنك لم تفهم شيئاً" مقولة لمراسل حرب فرنسي أو بريطاني، لا أذكر.. لكنها باتت المقولة التي يُختم بها اي نقاشٍ عن لبنان، هنا في فرنسا.. هذا إذا تجرّأ أحد على الحديث عن لبنان.. فللبنان سوريالية تحتاج صبراً وفلسفةً وقدرةً على تقبّل أنك لست بالذكاء الكافي لتفهم..
سوريالية تراها أينما كان.. بدءاً من الزواج.. صديقةٌ أخرى تتوجه إلى قبرص لتتزوّج مدنياً.. فلبنان لا يحضن أمثالها، وإن باتوا واقعاً يعيشه وليس مجرد حالاتٍ نادرة.. لبنان لا يقبل أن يرفض هؤلاء الطائفية، وان يرفضوا العنصرية تجاه أبناء الدين الآخر (ولا الطائفة الأخرى).. وان يرفضوا أن تحكم قلوبهم مواقيت الصلاة.. لبنان لا يحضن هؤلاء الذين يبحثون عن شريكِ درب وليس عن زوجٍ يتممون به دينهم.. لبنان لا يحضن أولئك الذين لا ينظرون للزواج كمشروع جنة بعد الموت.. لبنان، بكيلومتراته التي لا تصل إلى 11000 كلم مربع، وطوائفه الـ17، يريد من ابنائه ان يقيموا جداراتِ فصلٍ عنصري.. ويرفض أولئك الذي يتعالون على ذلك.. بأي منطق أتزوج في قبرص وليس في وطني؟ بأي منطق أعود لأعيش في وطني بزواجٍ مدني لا يعترف به؟ بأي منطق؟ أعتقد أن حرب الزواج المدني انطلقت قبل الحرب الأهلية، وعادت بعدها نهاية التسعينات.. حربٌ لا يزال ينتصر فيها لبنان طبعاً ودائماً على التغيير..
سوريالية الدخول إلى الجامعة.. قالوا لي وله وأكيد هناك لها أيضاً: "معقول كل هذه الثقة بالنفس تقدّمون على امتحان دخول إلى الجامعة اللبنانية بدون واسطة؟" ارتعبنا، وخجلنا من الاعتراف بأننا لم نكن ندرك أننا بحاجة إلى وساطة للدخول إلى الجامعة.. والجامعة اللبنانية! وفعلاً، إما أن تكون بين ال10 الأوائل وإلا قل لوالدك أن يجري اتصالاته.. بأي منطق تطال المحسوبية التعليم؟ بأي منطق لا تؤمن الدولة المساواة لأبنائها أمام التعليم؟ تخرجت في العام 2006، ولا زلت حتى اليوم لم أحصل سوى على إفادة من الجامعة اللبنانية.. حصلت على شهادتين جامعيتين بعدها، ولا زلت لا أملك شهادة الجامعة اللبنانية.. لم أفهم خبايا الصراع بالتفصيل، أو بالأحرى استسلمت ولم ابحث عن التفسير، إذا كان موجوداً.. لكن على ما يبدو هناك خلاف على رئيس الجامعة وعلى من يوقع على الشهادات!.. بأي منطق لا يتسلّم تلاميذ شهاداتهم منذ ما يقارب العشرة سنوات؟ وطبعاً، لا تزال السوريالية منتصرة على الجامعة اللبنانية..
تتخرّج، بالإفادة طبعاً، فتقرر أنك تملك كافة المؤهلات للوظائف العامة.. ملّا نكتة؟ المؤهلات تسافر إلى الخارج يا ذكي.. الوظائف العامة بالكوتا.. انتقل بين فروع الضمان الاجتماعي ولاحظ اختلاف اللباس واللهجة.. تنقل بين وزارة الصحة ووزارة التربية ووزارة الثقافة (لا خبرة لي بوزاراتٍ أخرى) ولاحظ الفرق.. تنقل بين إدارات الجامعة اللبنانية.. كيفما تنقلت.. الكوتا واضحة وضوح الشمس.. في لبنان دليل الهاتف يشهد منافسة دليل هاتف الواسطة.. فلكل مسألة مخلّصها! هنا وساطتك شيعية، وهناك سنية، وهناك مارونية. وغيرها.. مهما كانت مشكلتك فالأكيد أن الواسطة هي الحل، ابحث في الدليل لتعرف إلى اي جهة تتوجه..
حياتنا كلها عبارة عن سوريالية.. بعد أكثر من عشرين عاماً على "انتهاء" الحرب الأهلية، لا زالت الكهرباء تُقطع، لا زالت المياه غير صالحة للشرب (حتّى أننا نسينا أنها حق من حقوق المواطنين)، لا زالت الطرقات مليئة بالحفر، لا زال "الاعمار" متمركز بحسب المناطق والسياسيين: وسط بيروت، مناطق من صيدا، زغرتا وإهدن.. وباقي لبنان؟ إذا لم يتذكر النائب المحلّي منطقته، أكلت الضرب..
وضمن إطار هذه السوريالية، باتت طرابلس، ثاني مدينة في لبنان، باتت قندهار بحسب ما يصفها بعض أبنائها.. ثاني مدينة في لبنان تسجّل أكبر نسبة فقر في البلاد.. وتحديداً في منطقة التبانة.. ثاني مدينة في طرابلس، يصفها لبنانيون من خارجها بأنها عالمٌ آخر لم يجرؤوا يوماً على زيارتها.. فما بعد نفق شكا بالنسبة لباقي لبنان منطقة يفضلون عدم حسبانها عليهم.. لكن عندما أراد سياسيوهم أن يردوا على الفريق الآخر سارعوا إلى أحضان أهالي باب التبانة ليسلحوهم وليذكروهم بما ذاقوه من قوات الجيش السوري عندما دخل طرابلس وليقولوا لهم "لم ننساكم، خذوا الأسلحة وانتقموا".. القصة بين أهالي التبانة وجبل محسن ليست طائفية.. ليست قصة سنة وعلوية، مهما حاولوا أن يظهروها كذلك.. إنها قصة حرب أهلية لم تُخمد نارها يوماً، وقصة ملوك طوائف أتوا بعد حين ليبشروهم بالانتقام.. والطرفان أقل وعياً من بعضهما، واكثر تعنتاً من بعضهما.. سوريالية القتال الممزوج بالفقر والجهل والبعيد عن أي قضية.. وسوريالية جيشٍ لا يحسن على التدخل، ولا يقدر أن يسيطر..
سوريالية بسالة الجيش سوريالية تفوق كل جنون.. فيقوم "جناحٌ عسكري" لعشيرة باختطاف ما يقارب العشرين شخصاً، ويدعو وسائل الإعلام لمقابلة المخطوفين، يعني لا يتكبّد حتى عناء إخفاء مكان المخطوفين، ولا يجرؤ الجيش على اقتحام المكان لتحرير الرهائن.. يهدد الجناحَ نفسه مواطني دول أخرى علناً، وتقاطع هذه الدول لبنان. والجيش اللبناني حتى الآن غير قادرٍ على التدخل لتحرير المخطوفين.. حتى الآن لم تصدر أي مذكرة توقيف بحق الخاطفين.. اضحكوا علينا، لا تعتقلوهم، لكن تجرؤوا على الأقل على إصدار مذكرة توقيف!
والسوريالية الكبرى ليست الدولة اللبنانية الغائبة في غيبوبة أبدية.. السوريالية الكبرى ليست في الطقم السياسي الذي يعود كل عام، ويعود أبناؤهم من بعدهم.. السوريالية الكبرى هي في هذا الشعب الذي لا يزال مقتنعاً أن النظام القائم في لبنان، نظام الشلل النابع من التوافق الطائفي هو النظام الأمثل.. السوريالية الكبرى أنهم ينتخبونهم من جديد.. السوريالية الكبرى أنهم مؤمنون بأنهم يعيشون ديمقراطية حقيقية.. السوريالية الكبرى أنهم يسخرون من دول الثورات قائلين "ماذا يمكنهم أن يغيروا، فالنظام دائماً كما تريد الدول الأخرى وليس الشعب".. السوريالية الكبرى هي استسلامهم للتبعية إلى كل الأوطان.. إلا وطنهم..
لبنان.. المنتصر دائماً على التغيير.. وشعبك الأذكى من باقي الشعوب.. إلى متى؟
ملحوظة: طلال سلمان كتب في افتتاحية له منذ مدة عن الفكرة نفسها.. إذا بدت بعض التعابير مأخوذة منه، اعذروني، فهو نقلٌ حتماً من دون قصد.
0 Comments
Post new comment