لم أعد أفهم.. كيف أصبحنا جميعنا قتلة؟

ازدحام فكري.. يلاحقني حتى داخل غرفتي.. أغلق النوافذ لأنعزل عن العالم.. لكن العالم المشكلة هنا.. وليس في صوت العصافير... المشكلة داخل أسوار غرفتي وليس في شجرة الكاتالبا التي بكيت على أوراقهاعندما خسرت المعركة أمام أمطار تموز.. شجرة الكاتالبا هذه عادت بأوراق جدد، تطرق على نافذتي.. ولم ألاحظ.. فوجئت اليوم أنها عادت خضراء، دققت النظر فرأيت بقايا أوراقٍ ممزقة.. وتساءلت.. هل يبلغ عدد أوراقها عددَ من قتلوا حتى الآن في سوريا؟

 

لم أعد أرى الأخضر.. أصبت بعمى الألوان ربما؟ لم أعد أرى سوى أحمر الدماء.. والأعداد.. وأسمع صوت عجلة السينما تدور، كأنني في صالة عرض لفيلم تكاد تختنق من سوداويته، لكنّك غير قادرٍ على الحراك.. شلل يأتي ربما لإدراكك أنك مجرد كائن ضعيف لا يقوى على تغيير واقع أي كان.. كيف تغيّر وانت واقعك لا تغيّره؟.. نعم، عندما "تنزرك" أمام مآسي الناس، وجّه أفكارك نحو نفسك وحياتك، فالأنانية تكون أحياناً السبيل الوحيد لتخطي هذا الذل الذي تشعر به عندما تنظر وجهاً لوجه إلى ما آلت إليه الإنسانية.. 

 

الإنسانية.. وجود هذه الكلمة مفردة وحدها، وتمييزها عن كلمة إنسان، يعني أن الإنسانية والإنسان يُفترض أن يرتبطا، لكنهما غالباً ينفصلان.. "كفى فلسفة!!" لا أدري لماذا لا نحب نحن العرب الفلسفة؟ لماذا نقاطعها؟ هل أخطأ ابن خلدون وابن رشد والفرابي في مكان ما؟

 

لا بد أنهم أخطأوا.. وغيرهم من الفلاسفة الغرب والشرق والشمال والجنوب.. حتماً أخطأوا.. وإلا، فمن أين يأتي هذا الجنون الذي يبدو طبيعياً؟ 

في الولايات المتحدة، يدخل أناس إلى صالات عرض ليشاهدوا فيلم الرجل الوطواط، فينقض عليهم الجوكر "الممازح".. ليك ملّا مزحة؟!! المزحة الأكبر، أن مبيعات الأسلحة ارتفعت في الولايات المتحدة منذ حادثة أورورا! المتسابقان للرئاسة لم يقووا على طرح أية حدود لحمل السلحة في الولايات المتحدة، باراك أوباما اكتفى بالحديث عن الأسلحة الحربية فقط.. كالسلاح الحربي الذي استلمه مواطن في "مدري أية ولاية" عوضاً عن التلفاز..

 

في الولايات المتحدة ايضاً، هجوم على معبد للسيخ ومقتل ما يقارب العشرة أشخاص. طبعاً أنا اشارك المنددين بالاعتداءات، لكنني أقف مذهولة أمام الحملة (ولو كانت حملة ضيقة النطاق) التي أطلقت لتوضيح أن السيخ ليسوا مسلمين! فعلى ما يبدو منذ "الحادي عشر من سبتمبر" يتعرض السيخ لاعتداءات لأن العديد من الأمريكيين يعتقدون أنهم من حركة "طالبان". فالحل بتوضيح الفرق بين السيخ والمسلمين وليس بحملة واسعة النطاق تقول "لا للاعتداء على أي كان بسبب معتقده الفكري"؟ 

 

كيف ألومهم، و في مصر شعارات تُكتب على أبواب المكتبات القبطية في شبرا "ننذركم معشر النصارى بإنهاء تجارتكم النجسة ببيع الأصنام الأنجاس"!! شهادة الناجي الوحيد من الاعتداء على المعبر في سياناء قال إن المسلحين كانوا يصرخون "يا كفرة" عندما أطلقوا على الجنود النار.. تم ذلك دقائق بعد أذان المغرب، خلال إفطار الجنود.. 

وبالطبع هذا النوع من الشعارات والتصريحات لا يقتصر فقط على مصر.. لتونس، أحداث العبدلية. للعراق تفجيراته اليومية.. للجزائر، أحداث سيدي مسعود التي تتكرر بين الحين والآخر.. للسودان، بشيره الذي يسمي الجنوبيين بالصراصير.. حتى النروج! للنروج بريفيك الذي يريد حماية أوروبا من الغزو الاسلامي.. التعصب من جميع الجهات..

 

قم بجولة قصيرة، عشر دقائق، على "تويتر" والتغريدات التي لا تمت لزقزقة العصافير بأية صلة.. تابع التعليقات على المنتديات وعلى فايسبوك التي تهطل كالمطر (مطر يشبه الغيث الذي قتل أوراق شجرتي). تعليقات تنتقل من التكفير، إلى تحليل إراقة دم من وُصف بكافر، وتنتهي باستغفر الله العظيم.

 

لا أعرف كيف يصدر من يؤمن بأن الله غفور رحيم، أحكاماً بقتل الناس؟

 

لا أعرف كيف تركت تنسيقية الميدان في دمشق كل مآسي الشعب السوري حالياً، لتتوقف عند ما رأته كفرٍ صدر عن فتاةٍ تنادي، بطريقتها، بإسقاط النظام.. فانهالت الشتائم ضدها، وانهالت الدعوات لقتلها.. االقتل ليس استثناءً لهذه الفتاة، فالمعارضة تحكم بالقتل على كل من قد يكون له أي موقف قريب من النظام.. والموالاة تدعو لقتل كل معارض..

 

في سوريا أو خارج سوريا، باتت الدعوات لقتل فلان وعلّان عادية.. والتبريرات ولا أسهل: مشاركتك بصفحة ما، تعليقٌ أصدرته، وجودك ضمن مجموعة ما، فيلم حضرته، كتابٌ قرأته، قهوة شربتها، سيارة قدتها، تصفيقك لرياضي دون الآخر، انتماء ابن عمة خالة والدة مدرّسة العربي التي كنت تحبها إلى حزب ما، انتماؤك أنت إلى حزب ما، أو جمعية خيرية! لا يهم، سنجد المبرر الذي يقنع، وسنترك الأمر للديمقراطية: اضغط لايك إذا أردت أن نقطع رأس فلان!.. بهذه البساطة، ببساطة اعجابٍ فايسبوكي.. ألا تحب الديمقراطية؟

 

لم أفهم.. لم أعد أفهم.. كيف أصبحنا جميعنا قتلة؟ 

 

 

 

 

 

Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
2 Comments
أنا لا اساوي الدفاع عن النفس بالقتل.. القتل الذي أتحدث عنه هنا هو القتل الناتج عن التخوين والتكفير. مثل الدعوات التي تم تداولها عبر الانترنت لقتل شابة سورية، لأنها كفرت بحسب ما رآه البعض.
آسف لتشبيه قتل المعارضة بقتل النظام.. فالإحتجاجات السورية ظلت سلمية منذ آذار ٢٠١١ حتى آب ٢٠١١، قبل أن يصبغها النظام بصبغة الدم والقتل. أما قتال المعارضة فلم يكن إلا دفاعا عن النفس والأعراض. وما أجمله دفاع.. ل.ه

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.