مسؤولية الكلمة
"أنت صحافية، لا يمكنك أن تسألي سؤالاً مماثلاً. لست هنا لأعلّمك كيف تؤدين مهمتك." جملة قالها أكثر من مرشّح للانتخابات الرئاسية الفرنسية لإحدى مقدمات البرامج السياسية الأسبوعية. جملة لم تكن تظهر سوى للرد على الأسئلة التي تحرج المرشحين وتظهر التناقضات في وعودهم وخطاباتهم. لا أوجه أصابع الاتهام لمسؤول دون الآخر، فهي فعلاً جملة تداولتها معظم الأطراف، يميناً ويساراً، ووسطاً. معظم الأطراف اتهموا الإعلام الفرنسي "بالتحامل" عليهم. معظم الأطراف اتهم الإعلام بتشويه سمعتهم. حتى أن بعض المرشحين قاطعوا بعض الوسائل الإعلامية فمنعوها من تغطية اجتماعاتها الانتخابية.
لكن الأسوأ كان اعتداء مناصري بعض المرشحين على بعض الصحافيين، محمّلينهم مسؤولية فشل مرشحهم، أو تراجع شعبيته. اعتداء تراوح بين منع الصحافيين من أداء مهمتهم، إلى الضرب وكسر المعدات في حالات نادرة، لكن موجودة. هذا كله في فرنسا. في بلاد الحريات.
في بلدان أخرى، بعيداً جزئياً عن الحريات، يُعتقل الصحافيون لإخلالهم بأمن الدولة، أو بتهمة بث الفتنة. والشعب يوافق بالأغلبية على ضرورة اعتقالهم، فالأمن العام والسلم الأهلي أهم من الكلمة الحرّة - هذا ما تظهره الدراسات منذ عشرين عاماً على الأقل! فنان هو هذا الذي أقنع الناس أن الصحافة هي سبب النزاعات، أن الصحافة الحرة هي السبب في مقتل أقاربهم. أن الصحافة الحرة أنانية، لا تسعى سوى للسبق الصحفي الذي يعود عليها بالأرباح. وأن الحروب تغذّي قلمها، فبالتالي هي تشجع على الفتن وتسعى على قدم وساق للإخلال "بالسلم الأهلي". فتتكاثر الدعوات إلى الإعلام لإدراك "مسؤولية الكلمة"، والكف عن استفزاز عواطف المواطنين!
في بلدان أخرى، بعيدة كلّياً عن الحريات، يُغتال الصحافيون دون أن يحرّك أيّ كان ساكناً. عوضاً عن الرحمة على أرواحهم، يعلّق البعض "الحق عليهم، هل كانوا يظنون فعلاً أنّهم سيغيّرون شيئاً؟" أو "البحث عن الشهرة قتلهم". البحث عن الشهرة وليس عن الحقيقة. طيشهم قتلهم وليس الأنظمة الطائشة! سعيهم إلى النجومية.
نعم، باتت كل كلمة حرّة خطوة إلى النجومية بنظر من لا يحبّذها! وأنا لا ألوم الناس كلّياً، فبعض "الإعلاميين" دخلوا فعلاً عالم الصحافة بهدف النجومية.
باتت كل كلمة غير مرغوب بها أجندة خارجية. وأنا لا ألوم الناس، فبالفعل باع بعض الصحافيين أقلامهم.
لكن من يبحث أينما كان عن الأجندات، يجدها. طبعاً يجدها، فالصحافة لا يمكنها أن تكون حيادية. لا فسحة للحيادية. بدءاً من الصحافة المكتوبة، حيث لا يمكنك أن تضع كافة الأخبار على الصفحة الأولى، فتختار. وصولاً إلى المرئي والمسموع حيث لا يمكنك أن تبدأ نشرتك بأخبار الهونولولو بينما يُقتل الآلاف في سوريا، فتختار. وباختيارك تفقد حياديتك، ليرى فيها البعض أجندة خارجية. لم يعد أحد يصدّق أن الأجندة قد تكون داخلية بحت! أنها نابعة من منطقك "الأعوج" ربما، لكنه منطقك الخاص. وأنا لا ألوم الناس، فقلة هي الوسائل الإعلامية التي لا يموّلها فلان وعلّان. ولكن هل لنا الحق بالمحاسبة؟ نحن الشعوب التي لم تعد تقرأ منذ عقود؟ كما تبحثون عن الأجندة الخارجية، يمكنني أن أجد هنا المؤامرة. مؤامرة ضد الإعلام الحر. مؤامرة تنص على تجويع الشعب فيقتصد بدءاً من التوقف عن شراء الصحيفة، فتتمكن الأنظمة من شراء الصحف التي تقف أمام خيار الإقفال أو البيع. أينما تبحث يمكنك أن تجد مؤامرة وأجندة خارجية. وحيث تجدها يمكنك أن تجد الأجندة المناقضة لها، إذا أردت.
حتى في إعلام الأجندات، يمكنك أن تكون حرّاً. كثر هم الصحافيون الذين يتلاعبون بالأجندات المفروضة عليهم، فيكتبون بين السطور. لكن كثر هم من يتبعون إعلام الأجندات بطريقة عمياء، فلا يقرأون سوى العناوين. ولا يبنون آراءهم، بل يتبنّون آراء الأجندة. وهل الصحافي هنا هو أيضاً الملام؟
متى نسي الناس أن الصحافة الحرة هي وسيلة محاسبة للأنظمة؟ متى نسي الناس أصلاً أن من حقهم محاسبة الأنظمة؟ متى نسي الناس أن الأكاذيب هي التي تؤدي إلى هشاشة السلم الأهلي وليس الحقيقة؟ متى نسي الناس أنهم هم من يعطون حق النجومية لرعاع يشوّهون الصحافة؟ متى نسي الناس أنهم هم مصدر السلطات كافة؟ متى نسي الناس أن آراءهم لا يجب أن تنبع من مصدر واحد معروف بأنه يتبع أجندة حزب أو شخص أو دولة؟ ومتى نسي الناس أن الصحافة الحرة لا تزال موجودة؟ متى نسي الناس معنى الحرية؟
هذه مدوّنة متأخرة بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، مدونة شكر للعديد من الصحافيين الذي لم ينسوا، منهم: ماري كولفن، ريمي أوشلك، علي شعبان، سمير قصير، سردشت عثمان، مهاد صلاد عدن، علي عبدي، هادي المهدي، وغيرهم من الصحافيين الذي قتلوا اثناء أدائهم لواجبهم، أوالذين اغتيلوا بسبب قلمهم.
0 Comments
Post new comment