أرقي والمؤامرة
لا أنام منذ ليل الجمعة.. حاولت أن أدعي أن رؤية الناس يموتون، جزء من مهنتي، وأنه جزء من يومياتي.. حاولت أن أقنع نفسي أن عدم التأثر يعني أنني محترفة.. حاولت أن أقول أن لا يد لي بما يحصل للعالم.. لكن مواعظي لا تنفع.. ما زلت لا أنام..
الحياد والموضوعية: عناوين كبيرة درسناها في الجامعة.. في حصة، أخلاقيات المهنة.. أذكر جيّداً أستاذي الذي أنهى الفصل بقوله: "على كل حال، الموضوعية شعار فلسفي، شأنه شأن الحقيقة.. لا تعذّبوا ضمائركم فلا أحد يستطيع أن يكون موضوعياً، ولا حتى آلة التصوير الأوتوماتيكية. فالموضوعية تسقط بدءاً من الزاوية التي التقطت منها الصورة، مروراً بتسلسل المعلومات وصولاً إلى تأثيرك الشخصي.. فأنتم بشر، ولكم عواطف ومشاعر، ولا يمكنكم سوى أن تنحازوا لذلك وذاك".. قال لنا أننا سنبكي عندما نرى أطفالاً تموت عبثاً.. وقال لنا أن القاتل المتسلسل هو ربما الوحيد الذي يمكنه أن لا يتاثر أمام موت الأبرياء..
لا أريد أن أخوض نقاش "من قال انهم أبرياء".. فالأطفال أمر غير خاضع للنقاش بالنسبة لي.. هم حتماً أبرياء.. أبرياء من المعارضة ومن الموالاة.. أبرياء من الاستبداد ومن الثورة.. أبرياء حتى لو نزلوا إلى الشارع يهتفون ضد الرئيس أو مع الرئيس.. فنزولهم ليس سوى انعكاس لمواقف أهاليهم.. هم أبرياء من أهاليهم وأبرياء من رئيسهم.. ولذلك لا يمكنني أن أفهم هذه الحرب بالأطفال.. بغض النظر عمّا إذا كنتم تعتقدون أن من يعذّبهم ويقتلهم هم قوات الأمن، أو جماعات مسلّحة..
ولدت في بلد مشرذم، وربما كان ذلك السبب في أنني أبحث دائماً عن نقاط الالتقاء عوضاً عن الخصام.. فلنقل أن قاتل الأطفال هو كائن ثالث، بعيد عن الطرفين كبعده عن الإنسانية.. من أية فصيلة هو؟ كيف يقوى على تعذيب طفل؟ كيف يقوى على محاسبة طفل؟ وعلى أي أساس يحاسبه؟ ما هو هذا الدافع الكبير الذي يحلّل له قتل أطفال وتعذيبهم؟ ما هي هذه القضية الكبرى التي تخلده إلى النوم ليلاً بعد كل ما قام به؟ ربما يمكنني أن أتعلّم منه الموضوعية..
أو ربما هي مؤامرة كبرى؟ ربما الربيع العربي كله مؤامرة ضدّي.. كي لا أنام.. ولم لا؟ لماذا هي مؤامرة ضد النظام؟ ومؤامرة ضد الشعب؟ ومؤامرة ضد الثورة؟ وليست مؤامرة ضدي؟
أنطوان صفير يقول في أحد كتبه أن مشكلة الشعوب العربية أنها منشغلة بالتنبه إلى المؤامرة.. فتغفل عمّا يجري فعلاً، ولا تبحث بعيداً لتفسير مجريات الأحداث، ولا لتحليل المصالح الداخلية والدولية، الاقتصادية والسياسية.. فالمؤامرة تأتي "واقفة" أينما رميتها.. ضد النظام أو مع النظام، إذا بحثت عن المؤامرة فستجدها حتماً.. والمؤامرة ترص الصفوف، فهي تقنعك بأنك تتعرض لاعتداء جبار، وتجبرك بسرعة على اختيار من تراه أقل سوءاً من غيره كحليف لك..
هكذا ضمنت الأنظمة الدكتاتورية بقاءها.. وهكذا ستزول..
الأنظمة تزول، والمصالح تبقى، والمؤامرة باقية هي أيضاً على ما يبدو.. وقتل الأبرياء سيبقى.. فالإنسانية على ما يبدو فكرة فلسفية، شأنها شأن الموضوعية، شأن الحقيقية..
6 Comments
Post new comment