كل قطار يفوتكم، وأنتم بألف خير..
بابتسامة غاية في البراءة والسعادة، وصف لي أنامل طفلته الصغيرة.. أخبرني أنها أميرته، وأنها ستكون تاج رأسه طوال العمر.. قال إن صرخة الحياة التي أطلقتها عند الولادة أعادته هو إلى الحياة، ملأت قلبه بالجمال.. نعم هو الجمال الخالص.. جمال لا تلمسه إلا نادراً.. هي، ابنته، طفلته، حملت إليه كل هذه الأحاسيس الجميلة.. حملها بين يديه كمن يحمل إكسير الخلود والتفت إلى الأهالي والأقارب، ليشاركهم سعادته، ليشاركهم هذا الكم الهائل من كلّ الأشياء الجميلة والرقيقة.. فعندما يلمسك ملاك، تنسى أنانيتك الإنسانية لتغدق كرماً.. بكل هذه البهجة التفت إليهم، رأى ابتسامة والدته.. المشهد "سلو موشيون": يرى يدها ترتفع تدريجياً إلى فمها كي تزرغد.. نعم زغردي يا حجة زغردي.. يسمع الزلغوطة ترندح، تليها ألف ألف مبروك، قلبه لا يزال يواصل انتفاخه من الفرحة مع كلمات الحاجة إلى أن تختم التهنئة بـ"عقبال الصبي"... فتردد "وعقبال ما نشوفها عروس"...
وشششششش.. كالمنطاد الذي تلقى منقار صقر...
في الغرفة الثانية، ولد الصبي، لعائلة أخرى.. فرحة العائلة الأخرى كبيرة طبعاً.. تكرار للمشاعر، فالولادة معجزة تولّد مشاعر لا توصف بشهادة الأطباء.. المشهد يتكرر: حاجة العائلة الأخرى تزغرد، ألف ألف مبروك.. وتختمها بـ"عقبال ما نشوفه دكتور"..
وشششششش، منطاد آخر يتلقّى صاروخاً .. 2-0 للمجتمع!
منذ الولادة وحتى القبر، ما إن تفرح لحدث ما، يأتيك صديق أو قريب أو حتى معرفة سطحية ليتمنى لك شيئاً آخراً.. إذا نجحت في المدرسة، يتمنون لك أن تصبح الأول، إذا كنت الأول يتمنون لك علامات أعلى.. إذا حصدت أعلى العلامات الممكنة، يتأكدون أنك يجب أن تصبح طبيباً.. تصبح طبيباً يتمنون لك أن تتزوج.. تتزوج يتمنون لك ولداً.. يأتي الولد فيتمنون أخاً أو أختاً له.. لا تكاد تحملهم بين ذراعيك حتّى يتمنون لهم أن ينتقلوا إلى ذراع شريك الحياة.. وهلمّ جر..
منذ الولادة وحتى القبر لا ينفك المجتمع يسجل أهدافاً ضدّك..
النوايا صافية بلا شك.. وأغلب المطالب هي جزء من العادات أكثر من كونها مطلب فعلي.. وللبعض هي فعلاً تحفيز نابع من القلب، وللآخر هي أمل حقيقي بالمزيد..
المزيد من التحفيز، كأنك هامستر أمام أعينهم، لا يتركون لك الوقت لتدرك أنك تدور في الدولاب فهم يريدونك أن تركض أسرع.. أعلى.. أبطأ.. يمين.. يسار..
قد تظن، عندما يتسنى لك الوقت لتفكر، أنه يجب علينا إعادة النظر في هذه العادات التي تظهرنا كأناس لا يعجبها العجب تمارس الاضطهاد الاجتماعي على محيطها باسم قطار الحياة..
و ما أدراك ما قطار الحياة!
للعلم، بعد دراسة عميقة لمسار القطار وشروط سيره والعوامل الجوية، إعلم أن قطار الحياة سيفوتك حتماً.. سيفوتك ويفوتني ويفوتنا جميعاً.. لا مفرّ..
لكنني أنصحك، والنصيحة لله، أن لا تظهر لأحد أنّك كشفت اللعبة.. ولا تفكّر أنّك الذكي الفذ الذي سيظهر للجميع "إن الحتّوتة دي ما تعدّيش عليّ".. فإذا أسقطت القناع عن قصة القطار، ستواجه حكم الإعدام: الاستجداء العاطفي! "معقول يا ماما تكسر لي قلبي و ما تخلّيني شوف ولادك قبل ما أموت؟؟؟؟".. حفظ الله كل الأمهات والجدّات والخالات والعمات، وكل عزيز وعزيزة له معزة خاصة في قلبك.. لكن عند لفظه أو لفظها هذه الجملة بالذات، ستتمنى لو ان قطار الحياة يدهسك بلحظتها.. وستندم ندماً شديد اللهجة على كشفك لحيلة القطار.. وستشكرني وإن متأخراً لأنني حاولت أن أحذّرك..
كل عام يمر، وكل قطار يفوتكم، وأنتم بألف خير..
4 Comments
Post new comment